الحرب في السودان - الخرطوم، دار المايقوما
يموت عشرات الأطفال في دار للأيتام بالخرطوم نتيجة المعارك العسكرية الطاحنة بين الجيش وقوات الدعم السريع، المستمرة منذ منتصف أبريل الماضي، وفق تقرير مطول نشرته رويترز، الاثنين.
وتسببت المعارك بمقتل مئات الأشخاص وإصابة الآلاف بجروح، فضلا عن مئات آلاف النازحين والمهجرين، وخسائر مادية جسيمة بالممتلكات، ومعاناة كبيرة للسكان.
وخلال الأيام التي تلت اندلاع الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية في العاصمة السودانية الخرطوم، كانت الطبيبة، عبير عبد الله، تهرع بين الغرف في أكبر دار للأيتام في السودان في محاولة لرعاية مئات الرضع والأطفال الصغار، بعد أن تسبب القتال في منع غالبية الموظفين من الحضور.
وروت عبير كيف كانت صرخات الأطفال تسمع في أنحاء دار رعاية الطفل اليتيم، كبيرة المساحة، المعروفة باسم “دار المايقوما”، بينما كانت المعارك الكثيفة تهز المناطق المحيطة.
ثم عرف الموت طريقه إلى الدار. وكان هناك أطفال رضع في الطوابق العليا من دار الأيتام التي تديرها الدولة. وقالت الطبيبة إنهم تعرضوا لسوء تغذية حاد وجفاف بسبب عدم وجود عدد كاف من الموظفين لرعايتهم. وأضافت أن عيادتها الطبية في الطابق الأرضي كانت تستضيف عددا من الأطفال حديثي الولادة الضعاف، وتوفي بعضهم بعد إصابتهم بحمى شديدة.
وقالت عبير، التي تشغل منصب المديرة الطبية لدار “المايقوما” عبر الهاتف من مقر عملها “هم كانوا يحتاجوا رضعة كل 3 ساعات.لم يكن هناك أحد”.
وأضافت بينما كان بالإمكان سماع صرخات الأطفال في الخلفية “حاولنا أن نعمل لهم مغذيات ولكن في معظم الأحيان لم نقدر على إنقاذهم”.
وتابعت أن معدل الوفيات اليومي ارتفع إلى حالتين وثلاثا وأربع حالات وأكثر من ذلك، وأن ما لا يقل عن 50 طفلا، من بينهم 20 رضيعا على الأقل، توفوا في دار الأيتام في الأسابيع الستة منذ اندلاع الصراع في منتصف أبريل الماضي. وقالت إن 13 طفلا على الأقل منهم توفوا يوم الجمعة الموافق 26 مايو.
وأكد مسؤول كبير في دار الأيتام هذه الأرقام، وقال جراح تطوع للعمل بالدار خلال الحرب إن عشرات الأيتام توفوا. وقال كلاهما إن الوفيات كانت في الغالب لحديثي الولادة، وآخرين تقل أعمارهم عن عام. وأشار الثلاثة جميعهم إلى سوء التغذية والجفاف والإنتان (تعفن الدم) كأسباب رئيسية للوفيات.
وحدثت وفيات جديدة في اليومين الماضيين. واطلعت رويترز على سبع شهادات وفاة، مؤرخة بتاريخي السبت والأحد قدمتها، هبة عبد الله، وهي يتيمة أصبحت فيما بعد واحدة من مقدمات الرعاية بالدار. وذكرت شهادات الوفاة أنهم توفوا جميعا نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، كما ساهمت الحمى أو سوء التغذية أو الإنتان في وفاتهم جميعا، باستثناء حالة واحدة.
وقالت الطبيبة عبير إن مشاهد الأطفال الضحايا في أسرتهم كانت “مفزعة ومؤلمة جدا”.
وتحدثت رويترز إلى 8 أشخاص آخرين زاروا دار الأيتام منذ بدء الصراع أو كانوا على اتصال بزوار آخرين. قال جميعهم إن الأوضاع تدهورت بقدر كبير وإن عدد الوفيات ارتفع.
وكان من بين هؤلاء، صديق الفريني، مدير عام وزارة التنمية الاجتماعية بولاية الخرطوم، وهي الجهة التي تشرف على مراكز الرعاية بما في ذلك الميزانية والتوظيف والإمدادات.
واعترف بارتفاع عدد الوفيات في دار “المايقوما”، وعزا ذلك بشكل رئيسي إلى نقص الموظفين وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر بسبب القتال. فبدون تشغيل مراوح السقف ومكيفات الهواء تصبح الغرف ساخنة بشكل خانق في ظل حر شهر مايو في الخرطوم، كما يجعل انقطاع الكهرباء تعقيم المعدات أمرا صعبا.
وأحال الفريني، وزينب جودة، مديرة دار “المايقوما” الأسئلة المتعلقة بالعدد الإجمالي للوفيات إلى الطبيبة عبير. وقالت زينب إنها كانت على علم بأكثر من 40 حالة وفاة.
وأضافت لرويترز أن القتال أبقى مقدمات الرعاية، المعروفات باسم المربيات، وغيرهن من الموظفين، بعيدا عن الدار في الأيام الأولى من الصراع. وقالت إن مناقشات كانت تجري حتى يوم الجمعة الموافق 26 مايو بشأن إجلاء الأيتام من الخرطوم.
وقال محمد عبد الرحمن، مدير الطوارئ في وزارة الصحة السودانية إن فريقا يحقق فيما يحدث في دار “المايقوما”، وسيصدر النتائج فور الانتهاء من التحقيق.
ولا تزال المنطقة خطرة. وفي مطلع الأسبوع الحالي استهدفت الضربات الجوية والمدفعية المنطقة التي تقع فيها دار الأيتام، وفقا لما قالته الطبيبة، وأكده اثنان آخران.
وقالت مقدمة الرعاية، هبة عبد الله، إنه كان من الضروري إجلاء الأطفال من إحدى غرف دار الأيتام عقب وقوع انفجار في مبنى مجاور.
ضحايا مجهولون
أطفال دار “المايقوما” من بين الضحايا المجهولين للصراع الدائر في السودان. ووفقا للأمم المتحدة أسفرت المواجهات عن مقتل أكثر من 700 شخص وإصابة آلاف آخرين ونزوح قرابة 1.4 مليون شخص إلى أماكن أخرى داخل السودان أو إلى دول مجاورة.
ومن المرجح أن يكون العدد الحقيقي للقتلى أعلى.
وتعطل العمل في العديد من المكاتب الصحية والحكومية المعنية بتتبع عدد القتلى في الخرطوم التي يتركز فيها القتال. وسجلت وزارة الصحة بشكل منفصل وفاة مئات الأشخاص في مدينة الجنينة بإقليم دارفور، الذي اندلع فيه القتال أيضا.
وتفجر الصراع في الخرطوم يوم 15 أبريل الماضي، بين الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان القائد العام للقوات المسلحة السودانية والفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وكان الرجلان يستعدان للتوقيع على اتفاق إطاري يحدد ملامح عملية انتقال سياسي جديدة نحو انتخابات تحت قيادة حكومة مدنية. وأطاحا معا بحكومة مؤلفة من مدنيين في انقلاب عسكري في أكتوبر 2021.
ووقع الجانبان في 20 مايو اتفاقا لوقف إطلاق النار لمدة سبعة أيام للسماح بوصول المساعدات الإنسانية. وساهم الاتفاق في تحقيق بعض الهدوء، بعد قتال محتدم في العاصمة السودانية لكن حجم وصول المساعدات زاد بمقدار طفيف.
ولم يرد ممثلو الجيش وقوات الدعم السريع على طلبات للتعليق من قبل رويترز.
ويُعد السودان، الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 49 مليون نسمة، من أفقر دول العالم. وأضر القتال بخدمات الرعاية الصحية الضعيفة أصلا وبخدمات أساسية أخرى بما في ذلك المستشفيات والمطارات.
وكان ما يقرب من 16 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية قبل بدء الحرب. وتقول الأمم المتحدة إن هذا الرقم قفز الآن إلى 25 مليونا. ووفقا لمنظمة الصحة العالمية توقف أكثر من ثلثي المستشفيات في مناطق القتال عن العمل.
وقال عماد عبد المنعم، مدير مستشفى الدايات، أكبر مستشفى للولادة في السودان، إن العاملين بالمستشفى اضطروا إلى الانتقال إلى أماكن أخرى في أواخر أبريل بسبب الصراع.
وأضاف أن العاملين نقلوا عددا كبيرا من المرضى، لكنهم اضطروا إلى ترك البعض وراءهم مثل المرضى الذين يعتمدون على أجهزة التنفس الصناعي أو يرقدون في الحاضنات. وكان إجلائهم يستدعي توفير سيارات إسعاف جيدة التجهيز وهو ما لم يكن متوفرا.
وقال إن نحو تسعة أطفال ماتوا، بالإضافة إلى عدد غير محدد من البالغين في وحدة العناية المركزة. وأكد مصدران آخران أن بعض المرضى تركوا في المستشفى لكن قالا إنهما لا يعرفان معلومات عن الوفيات.
ولدى سؤاله عن الوفيات في مستشفى الولادة، قال محمد عبد الرحمن، مدير الطوارئ في وزارة الصحة إنه لا يعلم بوفاة أي من المرضى، وشكك في ترك مرضى بالمستشفى، وامتنع عن الخوض في تفاصيل.
ومما يؤكد التداعيات الصحية على السودانيين من مختلف الأعمار، حدثت وفيات أيضا في أحد مراكز رعاية المسنين بالخرطوم وفقا لما قاله موظف الرعاية، رضوان علي نوري. وقال إن خمسة من المسنين المقيمين في “مركز الضو حجوج” لقوا حتفهم بسبب الجوع ونقص الرعاية. وقدم نوري صورة واحدة لما قال إنها جثة مغطاة لأحد النزلاء الذين ماتوا في ذلك الصباح.
وقال الفريني إن الوفيات المبلغ عنها في مركز رعاية المسنين ضمن “المعدل الطبيعي” ونفى وفاة أي من النزلاء بسبب الجوع.
وقال عطية عبد الله، السكرتير العام للجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان إن عدد القتلى من جراء أعمال العنف لا يمثل سوى جزء بسيط من أولئك الذين يلقون حتفهم بسبب الأمراض. وقال “الوضع الصحي يتدهور كل يوم”.
أطفال بلا رعاية
وتُعرف دار “المايقوما” للأيتام رسميا باسم دار رعاية الطفل اليتيم وهي عبارة عن مبنى مؤلف من ثلاثة طوابق في وسط الخرطوم وتقع على مقربة من مناطق القتال.
ويقول عاملون في الدار، ومتطوعون، إن وابلا من الرصاص أمطر المبنى. وقال أحد الأطباء إن الأطفال كانوا ينامون على الأرض في الأيام الأولى من القتال لإبعادهم عن النوافذ.
وتأسست دار “المايقوما” عام 1961، وتستقبل عادة مئات الأطفال سنويا، وفقا لمنظمة أطباء بلا حدود الخيرية التي تدعم الدار.
وتعاني الدار حتى من قبل اندلاع الصراع. وكانت تؤوي نحو 400 طفل دون سن الخامسة الكثير منهم من الرضع.
ويعيش الأيتام في عنابر مكدسة في الدار، وتضم كل غرفة 25 طفلا في المتوسط، وغالبا ما يحمل السرير الواحد اثنين أو ثلاثة من الرضع حسبما قال مسؤول بالدار وممرضات من منظمة أطباء بلا حدود كن يعملن في دار “المايقوما” العام الماضي. وقال هؤلاء إن الأطفال يصلون في الغالب إلى الدار في حالة صحية سيئة.
وسجلت دار الأيتام موجات من الزيادات الحادة في حالات الوفاة على مر السنين. وعانت من مشكلات تتعلق بالنظافة وتدني أجور العاملين ونقص الموظفين ونقص التمويل اللازم للعلاج في المستشفيات، وفقا لأطباء بلا حدود.
وسجلت دار “المايقوما” معدل وفيات بلغ 75 في المئة عام 2003، وفقا لمنظمة أطباء بلا حدود التي تدخلت لمساعدة دار الأيتام في ذلك العام.
وقالت السلطات لرويترز إن 77 طفلا توفوا في دار “المايقوما” في سبتمبر عام 2007، وهو ما عزته منظمة خيرية كانت تساعد دار الأيتام في ذلك الوقت إلى استقبال الدار لعدد كبير من الأطفال الذين كانوا يعانون من الضعف.
وتقول منظمة أطباء بلا حدود إنها تدخلت للمساعدة مرة أخرى في عامي 2021 و2022 بعد أن وصل متوسط عدد الوفيات إلى ما يقرب من 12 في الشهر، إذ قدمت دعما ماليا إضافيا من أجل سداد أجور مقدمي الرعاية ونقل الأطفال المرضى إلى المستشفيات. وبحسب المنظمة، تراجعت أعداد الوفيات إلى النصف تقريبا خلال تلك الفترة.
وعندما اندلع القتال، ظل معظم موظفي دار الأيتام في منازلهم. وعانت دار “المايقوما” من نقص العمالة لدرجة أنه لم يكن هناك سوى نحو 20 مربية لرعاية نحو 400 طفل، بحسب، دعاء إبراهيم، الطبيبة في دار الأيتام. وقالت هي وآخرون إن هذا يعني أن كل مربية مسؤولة عن رعاية 20 طفلا مقابل معدل مربية لكل خمسة أطفال في الظروف الطبيعية.
وقالت الطبيبة “أنا كنت أوقات أكون ناني (مربية) وممرضة وطبيبة بأكل (أطعم) في طفل وأعطي مضاد حيوي لآخر وأغير حفاضات ليهم”. وأضافت أنها كانت تسأل نفسها إذا حصلت على قسط من الراحة “كم بيكون فيهم متوفي لما أصحى؟”.
وقالت إنه سرعان ما سقطت مصابة بالإرهاق والحمى واضطرت لمغادرة دار “المايقوما” بعد أربعة أيام من بدء الحرب. وطلبت من الله العفو إذا كان هناك أي تقصير من جانبهم.
“نفقد يوميا أطفال”
زاد التوتر مع استقبال الدار للمزيد من الأطفال. وتقول الطبيبة عبير إن مركزين للرعاية أرسلا عشرات الفتيات والصبية الأكبر سنا إلى دار “المايقوما” في الأسبوع الأول من الصراع، كما أعادت مستشفيات نحو عشرة رضع كان الفريق الطبي بالدار أرسلهم للعلاج.
ويقول الجراح، عبد الله آدم، الذي تطوع للعمل في الدار في الأسابيع الخمسة الأولى بعد اندلاع القتال إنه أطلق في الأسبوع الأول من الصراع نداء عبر الإنترنت لمناشدة الناس للمجيء للمساعدة في تغذية الأطفال. وأضاف أن بعض المتطوعين استجابوا لكن لم يكن من بينهم أطباء أطفال.
وقال إن استمرار القتال يعني أن الإمدادات ستظل شحيحة وأن العاملين سيجدون صعوبة في العودة خوفا من التعرض لحوادث وسط تبادل إطلاق النار. وصمت بينما كان يتحدث مع رويترز عبر الهاتف في العاشر من مايو ليتيح سماع دوي القصف.
وقال آدم “هي الخرطوم حاليا بقت كلها منطقة عسكرية بالمناسبة. فأكيد ما في واحد هيتجرأ علشان يمشي يطلع خاصة بداية الضربة”.
وقال مسؤول بالدار وأيضا الطبيبة دعاء إن عدد مقدمي الرعاية لا يزال غير كاف بالنسبة لعدد الأطفال الذين يبقون بحفاضاتهم دون تغيير لفترة مما يجعلهم عرضة للطفح الجلدي والالتهابات والحمى. كما تتفاقم معاناة الأطفال وسط حرارة الخرطوم الشديدة التي وصلت في بعض الأحيان إلى نحو 43 درجة مئوية هذا الشهر.
وكانت منظمة “حاضرين” غير الحكومية، التي تساعد في جمع التبرعات لدار “المايقوما” من أجل سداد أجور العاملين وتوفير الإمدادات، قالت في منشور على فيسبوك في 16 مايو “نفقد يوميا أطفال ما بين عمر ستة أشهر لسنة ونصف السنة. نفس الأعراض، حمى شديدة لا تجدي معها نفعا كل محاولات الطاقم الطبي والنتيجة بعد أقل من أربع ساعات أرواح بريئة تذهب لرب أكرم منا”.
ويجري تكفين الأطفال المتوفين في غرفة بالقرب من بوابات دار الأيتام، حسبما قال المسؤول والطبيبة دعاء.
وقالت المتطوعة، مرين النيل، التي تطوعت في الدار في الأسابيع الماضية إن الحرب تطارد الأطفال حتى بعد الوفاة. وأوضحت أن الأمر المعتاد كان دفن جثة من يتوفى من الأيتام في جبانة تقع إلى الغرب من دار “المايقوما”، لكن الوصول إليها أصبح خطيرا للغاية. وقال المسؤول في دار “المايقوما” إن العاملين بدأوا يدفنون جثث الأطفال المتوفين في موقع آخر إلى الشمال الشرقي من الدار.
وقالت الطبيبة عبير عبر الهاتف، الخميس، إن نقل الجثامين إلى هناك صار خطيرا أيضا. وأضافت أن العاملين دفنوا جثتي طفلين في ساحة بالقرب من دار الأيتام، الأربعاء. وأضافت أن ستة مدنيين قتلوا جراء قصف قريب دفنت جثثهم بنفس الطريقة في الساحة أيضا.
وقالت “الوضع صعب شديد وبيزيد”.
رويترز